Tuesday, December 25, 2007

ثلاثية "الحب" و"الألم" و"الموت

كانت حياتهما مملة في السنين الأخيرة، عاشا معًا أكثر من 50 عامًا يجمعهما سقف واحد وبيت واحد... خرج ذات يوم للحديقة وراء أحد طيوره المتمردة، سقط من على السلم، ارتطمت رأسه بالأرض، صرخ.. أقبلت زوجته تهرول خلف ذلك الصوت المندفع من قلب الحديقة.بدت جثته الهامدة وكأنها تحتفظ ببقية حياة تمكنه لقول ما لم يقله.. التقت عينه بعين زوجته، احتضنها بعينيه بعد أن تيبست كل تفاصيل يديه وقدميه.. تطلع إلى زوجته لآخر مرة إلى الأبد بعينين أشد بريقًا وأكثر حزنًا وأعظم امتنانًا مما رأته طوال نصف قرن من الحياة المشتركة
فقط خمس كلمات قالها هي بعمر العقود الخمسة التي عاشاها سويًا.. " الله وحده يعلم كم أحببتك".. كانت تلك كلمات "خوفينال أوربينو".في المقابل لم يكن من السهل على الزوجة "فيرمونا داثا" أن تتماسك أمام موت زوجها المفاجئ، راجية الله أن يمنحه لحظة من الحياة على الأقل كي لا يمضي دون أن يعرف كم أحبته ـ رغم الشكوك التي ظللت حياتهما في الفترة الأخيرة ـ ولتقول له كل ما لم تقله ولتفعل على أحسن وجه كل شيء كانت قد أساءت صنعه في الماضي.
كان الدكتور "خوفينال أورينو" طبيبًا مشهورًا في قريته، ينتمي إلى إحدى الأسر الارستقراطية التي تستثمر أموالها في أبنائها تمامًا مثل الاستثمار في شراء الأراضي والقصور، أو محطات المحمول على أسطح المنازل.
سافر إلى باريس وعاد إلى وطنه بعد حصوله على الشهادة العليا "بكالوريوس"، وعلى الفور شرع في الزواج، وكان الاختيار أجمل بنات القرية وأغناها في الوقت ذاته.
كانت مشكلة هذا الطبيب هو أنّ الحب في نظره ما هو إلا ثمرة تشخيص طبي خاطئ، ومن ثم فهو في اختياره لزوجته راهن فقط على شكليات الحب، الجمال والمال، لكنه لم يعش أو يحيا تلك التجربة فاستحالت حياته إلى هذا الجو الكئيب.
أتقن فن التشريح واكتشاف المرض، لكنه لم يتربَ ولم يتعلم كيفية اكتشاف تلك اللحظة السعيدة في حياته، والتي معها يولد الإنسان بمعناه الروحي والرباني بعد أن يكون قد اكتمل بناؤه الفسيولوجي والمادي.
في قريتنا ناهيا كنا ثلاثة أصدقاء؛ وذات يوم دار نقاش حول ثلاث أمور، ما هو الشيء المشترك بين كل البشر، والحقيقة الوحيدة التي يؤمن بها الجميع، وأجمل شعور يمكن أن يحياه أي إنسان من البشر.اتفقنا على أنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة في الكون التي لا يختلف عليها الناس، والألم هو الشعور المشترك.أما الحب فقد اختلفنا فيه؛ لسبب بسيط جدًا، أنّ كل عاطفة عاشها أي منا ما هي إلا تجربة ذاتية.
فهو مثل البصمة الوراثية لا تتشابه أبدًا حتى بين ذات الحبيبين، فكلاهما يرى الحب أبهر وأقوى وأجمل.الحب هو السؤال الوحيد الذي ليس له إجابة، بحيث إذا سأل إنسان ذاته لماذا أحب فتاة بعينها وخرج بنتيجة منطقية من واحد واثنين وثلاثة أقرب للمعادلة الرياضية؛ ففي هذه الحالة يتأكد أنه ليس أكثر من معجب وليس محبًا.. فالعاطفة ليست مسألة منطقية يمكن البرهنة عليها؛ لأنها أصلاً ليست من عمل العقل، ومن ثم لا يمكن أن تحتويها قواميس اللغة، فضلاً عن أنها تعجز عن توصيفها.
والفرق بين اختيار الحبيب واختيار الزوج هو الفرق بين الحب والزواج ، فالزواج مسألة عقلية والحب حالة عاطفية، في الزواج هناك حرية وعقل واختيار، أما الحب فتحكمه لاءات ثلاثة (لا حرية لا عقل لا اختيار) وربما أيضا " لا للإرهاب!".
هذه الخبرة لم نتعلمها بحكم التربية ولكن بحكم مقادير الزمن، وهو الأمر الذي يلقي الضوء على أزمة تحياها أمتنا وقريتنا، حيث نربي أولادنا على نسق الدكتور "أوربينو" بحيث يبدو الشاب أو الفتاة عاجزًا أمام تلك اللحظة المفصلية في حياته، فتراه تائهًا يسأل هل حانت لحظة الحب الأول؟ وكيف يهذبها وما السبيل في التعامل معها؟.. وكيف تتحول من مجرد عاطفة جميلة تبعث في النفس إشراقة وإقبال على الحياة إلى مشروع رباني لتعمير الحياة؟.
وهو ما ينتج في النهاية إلى حبال طويلة من علامات الاستفهام التي تحكم حياتنا والتي ترتبط أساسا بجماليات الحب وتطبيقاتها على الحياة.
علامات الاستفهام تكاد تتراءى أمامي وأنا أرى عقول الكثيرين من شباب ناهيا حائرة أمام هذا الطبيب الذي يقيم فوق منزله وأمام عيادته مباشرة محطات للمحمول وهو يعلم أنها ستضر جيرانه ومرضاه، هل هو مجرد استثمار عقاري أم أن الحب في نظره ليس إلا ثمرة لتشحيص طبي خاطئ تمامًا مثلما كان الحال مع الدكتور "أوربينو".
والجواب في ظني أنه بقدر ما تختمر النفس بالحب بقدر ما تبعث في الحياة هذه الإشراقة التي يتجلى غيابها في محطات المحمول المنصوبة فوق المنازل أو أكوام الزبالة المترامية على ضفاف الترع والشوارع. فالحب والجمال صنوان لا يفترقان أبدا.
وغياب الحب يبعد الجمال ويزرع القبح فتنتهي الشوارع والأزقة والحواري إلى مثل الحالة الني نعيشها في قريتنا.في ظني أنّ سبب غياب ثقافة الحب مرتبطة بنظرتنا لهذه القيمة " الحب" على أنها لون من ألوان العيب، فالأم تخجل من الحديث مع ابنتها في تلك الموضوعات لأنها عيب، والأب أيضًا يرى في مثل تلك الأطروحات ضياعًا لوقت ابنه الثمين الذي يجب أن يتوقف فقط على الشهادة العالية
هذه المصيبة تعدّت أيضًا إلى الحركات الإسلامية نفسها التي لم تعِ أن الحب كحالة شعورية تبعث في النفس قيمة أساسية في أي بناء أو نسق حضاري إلا وهي قيمة الجمال، واقتصرت أحاديثها ومصنفاتها اللفظية والفنية على الحب في الله الذي تم اختزاله في حب الأخ لأخيه وأمه وأبيه وصحابته وبنيه
القيمة الجمالية للحب كان السلف والخلف على وعي بها، فأبن القيم على سبيل المثال أفرد فصولا كثيرة عن أحوال العاشقين في مصنفه " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" ، هذا فضلا عما حفظته لنا متون الأدب العربي التي تفيض في معاني الحب والغزل مثل جميل بثينة الذي يقول في إحدى قصائده
ألا ليت ريعان الشباب جديد
ودهرا تولى - يا بثين - يعود
فنبقى كما كنا نكون وأنتمو قريب
وإذ ما تبذلين زهيد
إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي من الحب
قالت : ثابت ويزيدو
إن قلت: ردي بعض عقلي أعش به تولت
وقالت: ذاك منك بعيد
وفي عصرنا الحاضر لم تغب قيمة الحب وعلاقته بالجمال التي تشكل في النهاية النسق الحضاري لأية أمة كانت إسلامية أو غير إسلامية، ويكفي أن نشير هنا إلى الفيلسوف الإسلامي الكبير مالك بن نبي ربط بين التخلف وغياب الجمال. حيث يرى مالك أن القبح يعبر أساسًا عن تخلّف الثقافة
أما أديب الفكرة الإسلامية مصطفى صادق الرافعي فهو صاحب المصنف الشهير "رسائل الأحزان في فلسفة الحب والجمال" الذي وضع فيه خلاصة فلسفته عن الحب
إلا أن الأصوات السابقة خفتت في مقابل ثقافة أخرى إما همشت من قيمة الحب ولم تكن على مستوى من الوعي في التعبير عنها وتهذيبها، أو اختزلتها كما قلت سابقًا في باب واحد وهو الحب في الله.
ونظرًا لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فإنه وفي مقابل هذا الغياب لقيم الحب بمعناه الواسع؛ ظهرت نسخة أخرى مدنسة تسمى أيضًا بالحب يتم التعبير عنها أمام مدرسة ناهيا التجارية وعلى نواصي الشوارع.
لقد زينوا هذه النسحة المدنسة بحيث استحالت وثنا لكي يحقروا الفكرة الأساسية والقيمة الجمالية الأساسية التي فطر عليها الإنسان ألا وهي الحب .. "ولكن الكوكب المثالي ( الحب) يواصل سيره الذي لا ينثني وهو لا محالة سيضيء قريبًا انتصار الفكرة وذل الأوثان

No comments: