Tuesday, December 25, 2007

كلام في الحب ...

في زحمة الحياة وضغوطها الكثيرة، لا يجد الإنسان مفرا من الهرب إلى تلك اللحظة الجميلة التي لامس فيها الحب شغاف قلبه للمرة الأولى في حياته، تلك اللحظة التي اختزلت كل معاني الحياة والسعادة في كلمة واحدة لا يدرك كنهها أو معناها أو توصيفها سوى صاحبها.
وإذا ما عز عليه استدعاء هذه الخواطر الجميلة إلى مخيلته فأنه يستعين عليه بمن يستذكره أو يحي فيه تلك اللحظات، لعلها تذهب ببعض همومه اليومية أو يذهب هو معها لفضاء الأماني الذكية.
وهذا في واقع الأمر حال الكثيرين من جيلي والأجيال الذي سبقتنا وربما بعضا من الأجيال التي لحقتنا التي لم تتلوث كثيرا بمدنية العصر الحديث الذي تغيرت فيه معاني الحب من قيمة سامية تعلو بصاحبها إلى عالم الإنسانية الحقيقة، بعيدا عن عالم الجمادات والحيوان:
إذ أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فأنت وعيرٌ بالفلاة سواء
هذه المعاني تغيرت للأسف بحيث استحالت كلمة "الحب" إلى حدوته مسلية يجد فيها الشاب أو الفتاة الصيغة المثالية للتعبير عن معاني الرجولة والأنوثة، بعد تجاوز مرحلة الطفولة، أيا كانت الصيغ أو المواقف التي يتم بها التعبير عن هذه الحياة الجديدة.
قبل الولوج إلى تفسير قيم الحب الجديدة التي عرفتها قريتنا، أشير إلى نموذج عرفته من صغري وبالتحديد في المرحلة الابتدائية والذي عادة ما يطربني بقصة حبه الجميلة التي لم تر النور، ورغم أنه أعاد عليّ هذه القصة مرات كثيرة، إلا أني كنت دوما أسمعه لأني في واقع الحال اعرف أنه لا يخاطبني أنا بل يخاطب تلك اللحظة الجميلة ويستدعيها، فلا بأس إذن أن أسمع طالما أنه هو الأخر يذكرني بذات اللحظة.
حكي لي صاحبي كيف أنه عشق محبوبته من طرف واحد لما يزيد على 15 عاما دون أن يتطلع أو يحلم حتى بأن تعرف أنه يحبها، فهذا في واقع الأمر لا يهمه كثير، يكفيه فقط أنه أحبها.
حكي أيضا أنه كان يمر من أمام منزلهم الواقع في .... والذي تطل شرفتها على الترعة القديمة وقت أن كانت الترعة تساوي في معانيها النيل والكورنيش وليس شارع الهرم !!.
يحكي صديقي ويفيض في كلماته ويعود إلى الموضوع ثانية حول مروره من أمام منزل محبوبته، وإذا ما وجد الحديث متكررا فإنه يعطيه شيئا من الجاذبية يغلفها ببعض الأبيات الجميلة لامرؤ القيس
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
و ما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
استطرد الحبيب وأطنب في الحديث ليقول إنه مر ذات يوم من شارع .... فوجد عند بائع الملابس هناك بلوفر اسفنجي اللون يشابه في شكله وتطريزه ذلك الذي كانت ترتديه محبوبته، فكان يمر يوميا أمام هذا المحل ليرى محبوبته في هذا الزي أو ذاك البلوفر.
الأمر الذي ذكرني كثيرا بما قاله جابرييل ماركيز في روايته " الحب في زمن الكوليرا" والتي أشار فيها إلى أن بطل القصة فرنتينوا أريثا قام بشراء مرآة بثمن باهظ لمجرد أن محبوبته نظرت وظهرت بصورتها فيها.
كما أنه اعتاد أن ويطوف بيتها ليلا "ليعلم فقط أنها ما زالت حية دون أن يطلع لرؤيتها أو أن تراه".صديقي الذي أفاض في الكثير من تفاصيل القصة كان حريص أشد الحرص على تأكيد معاني الوفاء والرجولة، فلم يغازلها يوما، كما أن حياءه وقف حائلا ضد كل وسوسة شيطانية توحي إليه بمخاطبتها والتعبير لها عن حبه
فقط أحب ويحب وسيحب، دون أن تتجاوز هذه المفردات عالم خياله المتعالي والمتسامي والإنساني.قصته نموذج أصيل يعبر عن تراث وثقافة الإنسان المصري عموما والريفي على وجه خاص، هذه الثقافة كانت تعطي لهذا اللون من الحب مزاجا خاصا يتكيف مع العادات والقيم، بحيث إذا اكتملت ملامحه وقدر له أن يرى النور فهو إما مشروع خطوبة أو إعلان زواج، وإذا لم يقدر الله له أن يخرج إلى العلن، فهو يتحول تلقائيا إلى مشاعر جملية تعطي صاحبها أكسير الحياة إذا ما ضاقت به الدنيا واصطبغت حياته بألوان قاتمة
كنت ألمس دائما في حديثه أن قصص الحب القديمة كانت تتشكل وفق نماذج وأنماط اجتماعية في القرية شكلتها الأرض والطبلية والكنبة، والتي تتشابه جميعها في لون واحد وهو الروح الجماعية والأمن والأمانة التي كانت تحكم الجميع.
فالأسرة حول طبلية واحدة، والضيف بجانب أبناء البيت الواحد على الكنبة، والبيت الريفي إمام مبني على الطراز العثماني أو المملوكي القديم حيث المشربية أو الطراز الريفي حيث الشرفة العالية التي لا تسمح للمار في الشارع أن يتلصص على أبناء البيت
أما اليوم فقد اصطبغت قصص الحب التي يعيشها شبان القرية بالتحولات الجديدة التي شهدتها ناهيا مؤخرا عبر الهجمة الغربية الشرسة التي دخلت كل بيت عبر الموبيل والكمبيوتر والانتريه وحجرة السفرة
هذه الهجمة صاحبها غياب الروح الجماعية حيث تختفي الطبلية لصالح طربيزة السفرة حيث يجلس كل شخص على كرسي واحد بذاته ، والكنبة التي تجمع ثلاث أو أربع أشخاص استبدلت بغرف الانتريه حيث لكل إنسان كرسي واحد مخصص له أيضا الأمر الذي كرس الروح الفردية الأنانية المستعلية التي تنظر فقط لمصحلتها بغض النظر عن عذابات الآخرين
الروح الغربية وجدت أيضا طريقها في النماذج المعمارية التي عرفتها قريتنا حديثا، حيث اختفت الشرفة أو المشربية، لتحل محلها البلكونة الحديثة حيث يمكن للبنت أو الولد أن يقف ويرسل أسمى عبارات الحب لبنت الجيران في البلكونة المجاورة. وإذا ما كانت هذه البلكونة مغلقة فالأمر هين أيضا فما عليه سوى إرسال مزد كول أو رسالة بريدية عبر الإيميل.
معاني الحب الجديدة في القرية جاءت مع التحولات الجديدة خاصة مع غياب أصحاب الجلابيب الزرقاء حيث وجد الفلاح أن العمل بالسمسرة في بيع الأراضي أفضل وأيسر من زراعتها، الأمر الذي مهد لزحف قيم جديدة في الأنماط الثقافية الناهياوية قيم الربح والخسارة.
فلا مانع عند الأب أو الأم من أن تعيش ابنته أو ابنه قصة حب جميلة ( وفق النمط الحديث) إذا ما كانت هذه القصة تمهيدا لمشروع زواج أو خطوبة ( روح التاجر النفعي وليس الفلاح الشهم) . ولا مانع أيضا من أن تخرج البنت أو تقف على باب البيت أو في البلكونة سافرة شعرها إذا كان هذا الأمر يعجل بالزوج المنتظر أو يعبر عن حالة ثراء اجتماعي تتخذ من السفور عنوانا لمرحلة جديدة مقابل طرحة الفلاحة القديمة التي ذهبت مع أيام الفقر.
وفي ظل هذه الأنماط الجديدة تغيرت معها أيضا معاني وقصص الحب، فلم يعد بمقدور الحبيب أن يصبر مثل صاحبنا 15 عاما عن محبوبته أو يمر على حياء من أمام منزلها، فثقافة العصر الجديد عنوانها "ليه تدفع أكثر لما ممكن تدفع أقل" .. ليه تمر من أمام المنزل لما ممكن تقابلها في حديقة الحيوان أو في أحد شوارع ناهيا الخلفية.. ليه تتقدم لخطوبتها لما ممكن تمارس معها كل علاقات الحب المشروعة والمحرمة مقابل ورقة عرفي.
ثقافة جديدة ووعي جديد ذهب بزمن البكاء على الأطلال وديار ليلي التي كنا نحلم فقط بالمرور أمامها، فاليوم لا توجد حجة للبكاء، فديار ليلى باتت مفتوحة عبر الشرفات والأسطح والبلكونات.
كان القلب في الماضي هو مخزن الذكريات الجميلة، أما الآن فلديك ذاكرة الموبيل والماسنجر والشات، وإذا كان القلب في الماضي بمثابة حجرة واحدة مسكونة بحبيب واحد، فقد انقلبت الآية اليوم ليصبح شقة مفروشة من أربع غرف أو أكثر وهذا بالطبع مرتبط بذكاء وخفة الحبيب والمحبوب.
يقول ماركيز في رواية الحب في زمن الكوليرا " ذاكرة القلب تمحو كل الذكريات السيئة وتضخم الذكريات الطيبة وبفعل هذه الخدعة نتمكن من تحمل الماضي". ما قاله ماركيز يعبر عن مأساة شباب اليوم الذي لن تسعده الأيام بذاكرة حب جميلة تعينه على تجاوز الماضي، فتجاربه كلها ليست أكثر من أقصوصة صغيرة مثل قصص الحب التي تحكيها الأم لطفلها قبل النوم، وتقول في نهايتها "توته توته فرغت الحدوتة حلوه ولا ملتوتة

2 comments:

Anonymous said...

انا من اكثر الناس التي كانت تؤمن بالحب ولكن استطيع ان اقول لك اليوم انا عالمنا هذا لا يعرف معني الحب،وعذرا اذا قلت ان اكثر الرجال لاتعرف المعني الحقيقي للحب يرددون الكلمة بكل سهولة الالاف المرات وهم لا يعرفون معناها،مجرد كلام ومشاعر مزيفة لا يشعرون بيها لان من يحب حب حقيقي لا يجرح من يحبة حتي اذا فارقت بينهم الايام يتركة بدون جرح،علي الاقل يترك له ذكريات جميلة يتذكرها حينما يجلس وحدوةولكن من يجرح من يحب فهو للاسف لم يعرف المعني الحقيقي للحب .........فلا يوجد من يحب في مجتمعنا الان حب حقيقي بكل ما تحملة الكلمة من معاني كثيرة اكثر الرجال لا يعرفوها .

Anonymous said...

وفعلا القصة طلعت ملتوتة اووي ،ممكن نسمي الحب الاول وهم الحب ،وفيلم الوسادة الخالية كان بيقول فية احسان عبد القدوس الحب الاول هو اخر حب ومعظم الناس فهمت الجملة غلط،فعلا الحب الاول هو الحب الاخير،علشان الحب اللي بينتهي يبقي ماكنتش حب اكيد كان حب غير مكتمل