Tuesday, December 25, 2007

حبيبي راح هاتوه لي يا ناس

الجرح الذي يُحكّ بكثير من الاهتمام، يولد اللذة في النهاية"... مقولة للكاتب الفرنسي البير كامي تتناغم إلى حد كبير مع واقعنا العربي والإسلامي الذي يعيش أزمة قهر تحولت مع مضي الوقت شعور بالسعادة كونه مستهدف دائما، مقتدين في ذلك بمقولة أحد الفلاسفة الألمان " عندما يركلك الجميع فاعلم أنك في المقدمة"
ومن ثم فقد أصبحت جراح العراق وفلسطين والشيشان وأفغانستان جنبًا إلى جنب مع قضايا الاستبداد والمحسوبية والفساد، أقرب إلى لمطيات يومية من كثرة ما بها من آلام باتت مكون أساسي من الشخصية العربية على مستواها الجمعي والفردي
الشعور بلذة الاضطهاد أو " الحك على الألم" لم يكن ليكتمل دون أن تعيد الذهنية العربية صياغة معزوفة أخرى مفادها " البكاء على زمن الماضي الجميل"، التي انسحبت على جميع المفردات اليومية بداية من التاريخ والأدب، ونهاية بمباريات كرة القدم
والسؤال الجدير بالطرح هنا: لماذا لم تتحول كل الآلام والهموم المحيطة بنا إلى باعث للهمة، ولماذا تحولت أصلاً عن مسارها إلى حالة أقرب للطميات الشيعية التي تتباكى على مقتل "الحُسين" في حالة أقرب للأهازيج والفللكور الشعبي
للظاهرة تفسيران يكمل أحدهما الأخر
الأول: التفسير البسيط أو السهل حيث ينطلق من مقولة إن الواقع بكل تجلياته يعج بالكثير من الرذائل والمشاكل وذلك مقارنة بالماضي الجميل، وهو الأمر يجعل الإنسان ـ على سبيل المثال ـ يتباكى على جمال عبد الناصر، مقارنة بالرؤساء العرب اليوم، أو بمعنى آخر الحنين لأغنية الأطلال لأم كلثوم؛ إذا ما أتعسه القدر بسماع أغنية " بحبك يا حمار" لسعد الصغير!
التفسير الثاني: وهو أن الأمة في بحثها عن إجابات لأزمة التخلف الحضاري كان أمامها خيارين:أولهما: أن تقوم باعادة إنتاج كل مفردات الحضارة بمعناها الإنساني العام.ثانيهما: أو استيراد كل منتجات الحضارة الإسلامية والغربية
وقد لجأت الأمة إلى الخيار الثاني الأسهل والأجمل في آنٍ واحد، حيث إن البحث عن منتجات الحضارة الجاهزة لا يكلفها سوى النظر للماضي، حيث زمن السلف الصالح الجميل، أو التوجّه نحو الغرب حيث تتجلى معاني العدل والمساواة التي لا تتجاوز في واقع الأمر " حدود الإنسان الغربي"
فلو كنت من أولئك الشباب الذين يستمعون دومًا للشيخ "أبو إسحاق الحويني" أو "محمد حسان" فنموذج الاستيراد الأقرب إلى منظومتك الفكرية هو زمن السلف الصالح، أما إذا كان أستاذك المفضل هو أستاذ الفلسلفة "مراد وهبة"؛ فإن النموذج الغربي بكل قيمه العلمانية سيكون الأفضل من وجهة نظرك.
والحال لا يبعد كثيرًا أيضًا عن الحركات التي تطلق على نفسها أنها وسطية، فهي الأخرى تربي أبناءها على الوعي بمنتجات كلتا الحضارتين، دون أن تربيهم على كيفية إنتاج أدوات الحضارة نفسها، وذلك بغض النظر على مقولاتهم النظرية التي تتطابق مع الواقع
فالجميع حقيقة في المصيبة سواء، لا يختلف الأمر كثيرًا إذا ما صعد على المنبر خطيب سلفي أو إخواني، أو اعتلى منصة الخطابة مفكر ليبرالي أو علماني، فالكل يتحدث عن منتجات حضارية، دون الولوج إلى القيم نفسها التي أنتجت هذه الأدوات
فكتاب الأم للإمام الشافعي، وكتاب الخراج لأبي يوسف ( أحد تلامذة أبي حنيفة ) على سبيل المثال.... مجرد منتجات أبدعتها الثقافة الإسلامية في هذا العصر، ومن ثم فإن القيمة والأهمية هنا تكمن في الوعي بأدوات الحضارة نفسها، مثل الحرية، والإبداع، وقبول الآخر، وفقه الاختلاف، أما أن يصعد خطيب على المنبر ويسهب في شرح كتاب "الخراج" أو "الأم" فهو في واقع الأمر لا يتجاوز كونه ناقل لمنتج مكتوب عليه " صنع في زمن السلف الصالح!!
بالطبع لا أطالب هنا بحرق هذه الكتب، فهي تراث مهم جدًا في تشكل العقلية الإسلامية، ولكن اهتمام خطباء المنابر والمنظرين بمنتجات الحضارة الإسلامية والبعد عن تفسير المناخ الذي أبدع هذه المنتجات، لن يسهم أبدًا سوى في خلق عقلية تقليدية لا تسمن ولا تغني من جوع
الحال نفسه مع ناقلي المنتجات الغربية، فالجميع في هذه الأيام يتحدث على سبيل المثال حول قيمة المواطنة وأهمية الإشارة إليها في الدستور المصري الجديد أسوة بما يحدث في الدول الغربية
وبالنظر إلى المواطنة كقيمة حضارية (منتج) نجد أن الثقافة الغربية أبدعته بعد أن مرت بتجربة طويلة في الصراع بين الحرية والاستبداد، بين العقل والنص، بين الثابت والمتغير، بحيث تحقق وجود المواطن على الأرض قبل أن يتم التعبير عنه في الدستور.ولكن كيف لهذه القيمة أن تترسخ في الدستور المصري إذا كان الناس ينقسمون بين مواطن كامل ونصف مواطن وربع مواطن وذلك على حسب قيمة الثروة والجاه
المشكلة للأسف أن البحث عن منتجات الحضارة لا يحتاج من صاحبه سوى عملية نقل البضائع، فهو بشكل أو بآخر مجرد "ناقل" سواء من الحضارة الغربية أو الحضارة الإسلامية، فقط عليك أن تحتفظ بأسلوب خطابي يعتمد على البهرجة اللفظية
أما البحث عن أدوات الحضارة فهي تحتاج في الأساس إلى وعي، والوعي يحتاج لقراءة، والقراءة تحتاج لإنسان مهموم في الأساس..وكيف يتأتى ذلك كله إذا كانت اللطميات والبكائيات تفرز حالة من اللذة لصاحبها على طريقة " حبيبي راح هاتوه لي يا ناس"
والقصة بإيجاز ذكرها الكاتب الصحفي "محمد حسنين هيكل" على فضائية الجزيرة في برنامج "مع هيكل"، حيث أشار إلى أن المندوب السامي البريطاني في مصر اللورد كرومر دعي لحضور إحدى حفلات الزفاف بحضور سعد زغلول باشا، وكان الجميع يستمعون لأغنية مشهورة في ذلك الزمن، يقول مطلعها " حبيبي راح ، هاتوه لي يا ناس ..... "، دفع الفضول اللورد كرومر فسأل عن مطلع هذه الأغنية، وعندما أخبره بعض الحضور علّق قائلاً وقد استبدت به الدهشة: "حتى في الحب لا يكلف المحب عندكم خاطره للبحث عن حبيبه، ويطلب من الناس أن يجيئوا بها إليه" .

No comments: