Sunday, September 16, 2007

الباب العالي

في رواية " الآن هنا" كتب الروائي السعودي عبد الرحمن منيف على لسان بطل القصة: "الجلاد لم يولد من الجدار. ولم يهبط من الفضاء. نحن الذين خلقناه، كما خلق الإنسان القديم آلهته، ثم بدأنا نخاف منه إلى أن وصلنا إلى الامتثال والطاعة والرضا، وأخيرا إلى التسليم".
ما كتبه منيف يشدد على أهمية الذاكرة الجمعية للأمة التي احتفظت عبر تاريخها بعدد من الأفكار التي تحولت مع الوقت إلى مسلمات ثم إلى قوانين تحكم حياتنا وتعيد صياغة مستقبلنا.
الذاكرة الجمعية للأمة الإسلامية تشكلت وتربت على عدة منابع ثقافية، كان التاريخ ضمن أحد أعمدتها الأساسية، والذي بذل فيه أجدادنا من المؤرخين العظماء، من أمثال الإمام الطبري، وابن الأثير، وابن هشام، وابن كثير، والذين سجلوا لنا منهجًا نادرًا في جمع، وتدين الرواية التاريخية، وهو النموذج الذي خرج من رحم علم الحديث، القائم على أسلوب نقدي جاد، يسمى بـ"الجرح والتعديل"، وذلك في الحكم على الرواة، ومتن الرواية ذاتها.
غير أن تدوين التاريخ - في واقع الأمر - يختلف بصورة كبيرة، عن قراءته واستيعابه، وفهم دروسه، وهي الأمر الذي إذا غاب تحول الحدث التاريخي إلى نص أدبي للمتعة، والترفيه، " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . سورة يوسف (111).
وإذا كانت الأمة الإسلامية تعيش الآن أسوأ فتراتها التاريخية - على الإطلاق - منذ البعثة النبوية، وحتى الآن، فإنها تحتاج، بل إنها في أمس الحاجة إلى إعادة قراءة التاريخ، من أجل شحذ الذاكرة، و توضيح الرؤية، و الوقوف على أسباب التخلف، التي كانت عائقًا أمام نهضة الأمة الإسلامية، عبر تاريخها الطويل.
وهنا، لا أقدم في واقع الأمر قراءة جديدة، فهذا أكبر من أن يكون موضوعًا لمقالة، فضلاً عن أنه يحتاج إلى سعة علم، واستقصاء، لمصادر التاريخ الإسلامي، وهذا ما أعجز عنه، في حقيقة الأمر، على الأقل الآن. لكنني أيضًا سأستحضر - فقط – أحد المشاكل التي تطرح حاليا ليس في مصر فقط بل في عدد من الأقطار العربية ، في سوريا، اليمن، ليبيا، وهي ما يسمى بـ " توريث الحكم"، والتي في ظني تضرب بجذورها في تاريخنا الإسلامي.
قضية انتقال السلطة في مصر على سبيل المثال، من أبرز الأمور، التي تشغل الرأي العام، بين مؤيد، ومعارض، وأخر منكفئ على لقمة عيشة، ولا يهمه الأمر برمته.هذه القضية، إذا ما تم التعامل معها في الإطار الزمني الضيق، الذي يتعامل مع الأمر، باعتباره من إفرزات النظام الحاكم الآن، فإن هذا الأمر يُعد مغالطة تاريخية، خاصة وأن النظام الحاكم في مصر أو ليبيا أو سوريا أو أي قطر عربي أخر سيجد حوله من الأعوان، وفقهاء السلطة، من يجملون ويزينون له هذا الأمر، استنادًا إلى أراء ومواقف لفقهاء من عصور السلف الصالح، وهو الأمر الذي يخرج ملف التوريث من إطاره الزمني الآني، إلى سياق أوسع، وهو الإطار التاريخي، الذي حفظه أجدادنا، لكننا أخطأنا فهمه، أو أرادنا قراءته وفق ما نتمناه.
القراءة التاريخية لقضية التوريث، تعود بنا إلى عهد الخليفة الخامس "معاوية بن أبي سفيان"، الذي عهد بولاية أمر المسلمين من بعهد لأبنه يزيد، في خطوة فسرها كثير من المؤرخين القدامى، أنها جاءت بهدف حقن دماء المسلمين، حتى لا يسقط المسلمون فريسة لصراعات قبلية، حول كرسي الحكم.وبعيدًا عن هذا الفرض الواهن، لأنه في واقع الأمر إذا كان المطلوب مصلحة المسلمين، فقد كان من الأولى أن يقوم بما قام به الخليفة الأول "أبو بكر الصديق"، بعد أن عهد بالأمر إلى سيدنا "عمر بن الخطاب"، وهو هنا أراد وقاية المشروع الإسلامي من الفتن، لكنه في نفس الوقت، عهد به إلى الأصلح في زمانه.
أقول بعيدا عن هذا الفرض، فإن العقلية الإسلامية التي تتشكل وفق هذه الروايات هي التي نطالبها وندعوها إلى عدم السلبية والمطالبة بالتداول السلمي للسلطة في مصر، فكيف يتأتي ذلك، إذا كانت تتربى على أن التوريث يقي من الفتن، والوقاية من الفتنة مقدمة على الشورى " الديمقراطية" ..علماؤنا وشيوخنا القدامي، رغم أسلوبهم الفريد في نقد الرواية التاريخية، إلا أنهم عابهم للأسف منهج خطير يعد أحد أسباب التأزم، وهو تعليل الحدث وفق رؤى ربما لا يتحملها الحدث نفسه، خشية أن تلتصق بأحد الصحابة شبهة تقلل من قدره أو تحط من شأنه وهو في ذلك مخالفون للمنهج الإسلامي الأصيل الذي صاغه الإمام مالك بن أنس " كل إنسان يأخذ منه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
هذا الخوف خلط في واقع الأمر بين ما هو بشري، سياسي ، مادي، وبين ما هو ديني ، مقدس ، متجاوز للواقع ولحدود العقل البشري.فتحميل الخليفة معاوية سبب أزمتنا في عدم ظهور نظام سياسي متميز والدخول في فلك الاستبداد، يرتبط في الأساس بالجانب البشري عند الخليفة معاوية بن أبي سفيان، مرتبط بتقييم الحدث ضمن الأطر التاريخية المتفق عليها والتي يقبلها العقل البشري، دون أن يتجاوز ذلك إلى الحكم على النيات ومحاولة البحث عن تفسيرات ظنية الدلالة تتجاوز حدود الإمكانيات البشرية والتي تعد أحد خصائص الإلوهية نفسها والأخيرة سقط فيها أيضا غلاة الشيعة لكن على الجانب المقابل لعلماء السنة، وذلك عندما تجاوزوا ( أي الشيعة) حدود التفسير التاريخي وفق ظواهر الأشياء إلى بواطن الأمور بتكفير أو تفسيق الصحابة الكرام.
ومع توالي التفسيرات التي تبرر عدم تداول السلطة، بالوقاية من الفتنة باتت مع مضى الوقت إلى قانوني تاريخي أصبح أحد ركائز العقلية الإسلامية، بحيث انتهى الأمر أننا صرنا الآن أمام "يزيد" جديد، و"معاوية" أخر.
ربما يتوارد إلى الذهن سؤالان:
أولهما: هل من المناسب طرح هذه القضايا في الفترة الحالية، التي تعاني فيها الأمة الإسلامية من حملات مسمومة، تستهدف تاريخنا الإسلامي، وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، خاصة من جانب الشيعة وغلاة العلمانيين؟
الأمر الثاني: لو افترضنا جدلاً صحة تأريخ عملية التوريث لعهد الخليفة الخامس معاوية بن أبي سفيان، فهل ينهي ذلك "الاعتراف" أزمتنا، التي نعيشها، أم أن الأمر برمته أحاديث، ورؤى لا تنفع، ولا تضر؟
الإجابة عن التساؤل الأول تنطلق أساسًا من تلك الحملات المغرضة، التي تستهدف تاريخنا الإسلامي، وذلك أن بيان القضايا الخلافية في تاريخنا الإسلامي، وطرح تفسيرات مقعنة، أو حتى الاعتراف ببعض السقطات، التي وقعت من هنا ومن هناك، كان من شأنها - في ظني - القضاء على هذه الأفكار، وكسر السهام التي تنطلق من وقت لأخر.
غير أن الخوف من الاعتراف ببعض الأخطاء، التي وقع بها عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، ثم البحث عن مبرر لتفسير، و تبرير هذه الأخطاء، كان من شأنه أن أعطى لبعض الأشخاص فرصة للنيل من التاريخ الإسلامي برمته، بل ومن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي في أغلبها تدور حول واقعة التحكيم، بين سيدنا علي بن أبي طالب، و معاوية بن أبي سفيان، وموضوع التوريث، أو العهد، ليزيد بن معاوية، بأمر المسلمين.
ثم إذا كنا نرى أن كل إنسان يأخذ منه ويترك إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم، فهل من يضير الاعتراف بخطأ أو جرم وقع هنا أو هناك.. وهل وقوع شخص مثل الخليفة "معاوية" في خطأ التوريث، معناه محو، و القضاء على شخصيته، بجرة قلم، دون النظر في بقية سيرته السياسية، والإدارية، التي نجحت إلى حد كبير في بناء دولة إسلامية قوية!؟ .الأمر برمته هو أننا - للأسف - لم نتعلم، ولم نتربى على النقد، سواء الذاتي منه، الذي يرتبط بنقد الشخص لنفسه، أو الجماعة لنفسها، أو النقد الموضوعي، الذي يعيد قراءة التاريخ، أو الظاهرة الاجتماعية، كما هي، لا كما يتمناها هو.
أما الإجابة عن التساؤل الثاني، المرتبطة بواقعنا المتأزم، وهل طرح مثل هذه القضايا يمكن أن تساهم حقيقة في الخروج من مشاكلنا، أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد أحاديث، وسفسطة فكرية، لا طائل منها.
الإجابة على التساؤل الثاني مفادها، أن قضايا الفكر، لا تقل أهمية عن قضايا السياسة، أو الاقتصاد، فأي أمة تبحث عن الرقي لا تضع قضايا الفكر جانبًا، وتؤجلها حتى تنتهي من أزمتها السياسية، أو الاقتصادية، بل إن حل مشاكلها ربما يكون أصلاً بسبب تلك القضايا الفكرية، التي تنظر إليها باعتبارها ترفًا ثقافيًا، لا يسمن ولا يغني من جوع.
فبما أن أزمتنا الحضارية هي - في الأساس - خليط مركب من مشاكل سياسية، ودينية، واجتماعية، واقتصادية، فإن البحث عن مخرج لهذه الأزمة يجب أن ينطلق من كل القضايا، الديني منها والطبيعي، المقدس منها والبشري.
___
* الباب العالي هو القصر الذي كان يقيم به السلاطين العثمانيين ثم تحول الأسم بعد ذلك إلى الإشارة إلى السلطان نفسه.

2 comments:

جمال سعيد said...
This comment has been removed by the author.
Anonymous said...

يا عم جمال بارك الله فيك واعانك علي هموم البلد دي
لكن اسمح لي ان اتحفظ علي بعض المفاهيم التي طرحتها
اولا : انت تصر علي استخدام مصطلح الامة الاسلامية في حين ان القطرية اصبحت هي سيدة الموقف واصبحت الهوية القطرية هي التي تغلب علي الهوية الاسلامية مهما حاولنا ان نردد مصطلح الامة الاسلامية
تفتت الامة الاسلامية الي اقزام او هويات وطنية تختلف في المصالح والاهداف الي درجة التعارض والنبذ اذا حتي يكون الامر اكثر دقة يمكن ان نتحدث عن دول العالم الثالث التي تندرج كل الدول الاسلامية تحتها فهذه الظاهرة اي ظاهرة التوريث موجودة في كل دول العالم الثالث خد الجابون مثلا علي ذلك بل ان التوريث قد ينتقل الي دول العالم الاول لوكن متخفيا في ستار حفظا لماء الوجه واعتقد ان ما حدث مع بوش الابن من تزوير في ارادة الناخبين لا يبعد كثيرا عن التوريث
حتي لا يضيع مني الخيط فان التوريث سلوك بشري ربما يعود لادم عليه السلام وكل شخص يود ان يخلفه ابنه في مكان لكن في السياسة الامر جد خطير لانك تحكم علي ارادة شعب باكمله
بالتالي فانا اري ان المسالة مرهونة بالشعب ذاته وليس باي شي اخر
ثانيا : ذكرت تفسير السلف لحركة معاوية وتوريثه لابنه ولم تدعم قولك باسانيد او مراجع بل اطلقت كلاما عاما كنت اود لو حددت اصحاب الاراء التي فسرت هذا الامر علي انه درء للفتنة
ثالثا : رغم ان معاوية رضي الله عنه ورث ابنه الحكم الا ان الفتنه حدثت وحدث ما حدث من مقتل ال البيت وانتهاك حرمة البيت الحرام
رابعا واخيرا ابئي اتصل يا قليل الاصل
سعد البحيري
باحث وكاتب وقارئ علي ما تفرج