Tuesday, December 25, 2007

مصر بين مشهدين

يبدو المشهد السياسي في مصر وكأن البلاد مقبلة على حالة حراك تعيد صياغة المنظومة السياسية بحيث تتجاوز الطبقات المهشمة حالة السكون والخمول والإنزواء لتصبح شريكة في صنع القرار السياسي.

هذه الحالة المدفوعة بالاعتصامات والاضرابات العمالية الأخيرة دفعت بعد النظرات المتفائلة إلى حد مقارنة الواقع المصري بالعديد من الحالات الأخرى خاصة في جمهوريات أسيا الوسطى التي شهدت قبل نحو ثلاث سنوات العديد من الثورات الشعبية الملونة في أوكرانيا ( الثورة البرتقالية) وجورجيا ( ثورة الورود) ، قرغيزيا ( الثورة الليمونية) التي نجحت في إقصاء الأحزاب الحاكمة الموالية لروسيا آنذاك.

غير أن السؤال الذي يفرض نفسه .. إلى أي مدى يمكن أن تتشابه أو تختلف الحالة المصرية عن الحالات السابقة ؟
الاجابة على التساؤل السابق يدخل بنا في صميم الموضوع الذي بدأناه المرة في وقت سابق فيما يتعلق بطبائع الاستعباد وهذا الأسم هو تحريف للعنوان الذي وضعه عبدالراحمن الكواكبي قبل نحو 100 عام لكتابه "طبائع الاسبداد ومصارع الاستعباد" ولكن التحريف هنا كان مقصود لإن الاستبداد يخلق حاله من الاستبعاد هذه الحالة لها أخلاقها وعوارضها المرضية وهي ما قصدته بطبائع الاستعباد.

وقد أشرنا في المرة السابقة إلى نموذج الأواني المستطرقة حيث تنساب كل القيم السلبية في المجتمع من الطبقة إلى التي تليها بحيث تبقى جميعها عند مستوى أفقي واحد ومتماثل فما تقوم بها الطبقة الحاكمة من قهر واستبداد، تنتقل فيروساته وأعراضه إلى بقية شرائج المجتمع وأحزابه وجماعاته التي يفترض لها أنها إصلاحية غير أنها وللأسف لم تقم بتطعيم أبناءها بالأمصال المضادة التي من شأنها وقايتها من فيروسات الاستبداد المدمرة التي تؤثر سلبا على خلايا المخ فتنزع من الإنسان فضيلته وحيوته وتحوله إلى جسد هامد يتحرك بالريموت كنترول.

طبائع الاستعباد هذه يجب أن نضعها أمام أعيننا ونحن نقيم الحركات العمالية الأخيرة في المجتمع المصري، والتي يجب أن ننظر إليها في سياق الإحساس بالجوع وليس الكبت، منبعها البطون التي تغدو خمصا وتروح خماصا، وليس العقول المتمردة على الأوضاع السلبية القائمة، لا تعبر عن حالة وعي بقدر ما تشكل حالة يأس.

ومن ثم فلا مكان هنا للثورات البرتقالية أو الملونة، بل هي أقرب للحالة الأرجنتينية التي حدثت في مثل هذه الأيام من عام 2001 حيث خرجت الجماهير الغاضبة من سوء إدارة الحكومة للأزمة الاقتصادية في البلاد الى شوارع العاصمة والمدن الرئيسية، وهاجمت المتاجر ونهبت ما فيها من سلع وبضائع.

في الثورات الثلاث الملونة السالفة الذكر كان هناك دوما ترتيب ووعي سياسي مسبق وقيادة قادرة على لم شتات الجماهير نجح في هذا فيكتور يوشينكو في أوكرانيا و كورمان بك باكييف في قرغيزيا وميخائيل ساكاشفيلي في جورجيا.

أما في الحالة المصرية فإن الأمر لا يعدو أحلام للفقراء وجدت متنفسا لها من خلال الاضربات العمالية التي أكتشفت مؤخرا أنها أداة سياسية لتحقيق مكاسب اقتصادية ليس أكثر ولا أقل. وهو بالطبع ما سهل نجاحها حيث أن ارتباطها بأي تنظيم أو حزب كان من شأنه أن يتجاوز الإطار الاقتصادي فيعقد العملية ويكون سببا في فشل الاضراب بأكمله.

وإذا كان "هم" البطون يتقدم السياسي والانساني في طبائع الاستعباد، فإن الفردية هنا تحل أيضا محل الجماعية، حيث لا ينتصر المجتمع من أجل فضيلة أو فئة أو جماعة أو حزب ، بحيث يبدو كل فريق أو شخص أو فئة مطالبة بأن تقتنص حظها وحقها على طريقة وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.. هذا الأمر يمكن رصده:
شعبيا في قيام بعض أهالي قرى الوجه البحري بقطع أحد الطرق السريعة للتعبير عن أزمة انقطاع المياه النقية.

طائفيا: في حالة العسكرة الطائفية التي بدأت تنتشر بين الأوساط القبطية ففي كل أزمة تنشب تجد أن الشباب القبطي يلجأ للكنيسة لا للدولة.

عماليا: في الاضرابات العمالية التي شهدتها العديد من المصانع مؤخرا التي نجحت في كل تحركاتها في "لي ذراع الدولة" والحصول على حقوقها.

هذا الأمر وإن كان يسبب بعضا من الصداع للنظام وليس للدولة إلا أنه يعد أيضا أفضل المتاح في ظل حالة التأزم السياسي والتدهور الاقتصادي التي تحياها الدولة، وذلك لأنه يتيح له فرصة الاستفراد بكل طرف على حده فهو يفاوض العمال على حده والفلاحين على حده والمدرسين على حده، بحيث تبقى الروح الفردية التي تعد أحد تجليات الاستعباد هي السائدة والمسيطرة.

الروح الفردية التي يسعى النظام لتكريسها انتقلت وكما أسلفنا سابقا على طريقة الأواني المستطرقة إلى بقية الفئات والشرائح، ونظرة بسيطة على واقع الحركات القومية والإسلامية في مصر تكشف هذا الأمر، فالجميع يتصارع من أجل أن يبقى وحده المثثل لهذا التيار أو ذاك، الأخوان تجدهم أوسع صدرا وأرحب قلبا تجاه كل المكونات والأطياف السياسية في المجتمع إلا مع الأخر الإسلامي.
والعكس أيضا صحيح فالسلفيين ينقمون على الإخوان أكثر من نقمتهم على الماركسين والعلمانيين، في صراع لا يعبر إلا عن روح فردية ورغبة في استئثار الصوت الإسلامي مع الاعتذار بالطبع للحى الطويلة والخطب الانشائية التي ترطن يوميا بأناشيد الوحدة الإسلامية والصين لنا والهند لنا.

للأسف يبدو المشهد المصري والعربي عموما المشبع بطبائع الاستبداد لا يتجاوز الا أن يكون ( عامل أو موظف يبحث عن مصلحته + حزب أو فئة أو جماعة تحارب من أجل مكتسابتها الشخصية + حكومة أو سلطة مستبدة تحارب من أجل بقاءها + دولة لا أمة تصيغ علاقاتها السياسية وفق مصالحها).

No comments: